بحوث في الأمومة لإيمان مرسال
يجّدُّ الإنسان فجأة في بحثه عن دلائل لحياته وعلاقاته بأهله ومحيطه، عبر دفاتر قديمة ربما، رسائل ومنقول شفاهي وصور. النص الأدبي والصورة هي من ضمن مفاتيح الشاعرة إيمان مرسال في مشروعها قيد البحث والكتابة حول موضوع الأمومة. هذه المفردة التي تبدو لأول وهلة مثل كتلة صلدة ملساء، ولكنها ما أن تلبث تستقر في مخيلتنا حتى تشتعل لتتدافع تداعياتها وتتقاذف بعد لحظات مثل لحظة انفجار كبير. إيمان مرسال الشاعرة لا تطأ مكاناً غير مزدحم بها أولا، وفي الوقت نفسه لابد وأن يكون مثخّناً، لا بالفرح ولا الحزن ولكن بالأسئلة الصعبة مدى الحياة كي تظل تغرد وحيدة، بعيدا عن أحبتها، رغم إيهامهم في إشراكها في حيرتها، وكأنها عن عمد تختلق الموضوع الذي يبقيها حبيسة الأجوبة الناقصة المبهمة، فالأجوبة السهلة البديهية ستقشع الضباب، بينما هي تبتهل من دون وعي كي يبقى، رغم مقاتلتها إياه في الظاهر. هناك هشاشة واضطراب يستدعيان طرح أسئلة صعبة والأجوبة التي في متناول الذهن ستحمل عنوانا خاطئا للمرسل إليه. وإيمان مرسال تعمل على الهامش. الهامش الذي يوحي بالضيق والإقصاء هو الفضاء الذي يمكنها النبش فيه بمنأى وبحرية، وهو المركز الذي يشبع الغرور الخفي للذات لأنها المنهل، منبع الاتقاد.
ولكن ما الذي تحتمله الأمومة من نقاش؟ قد تختلف مداخل البحث إلى الأمومة عالميا فهو موضوع قائم وقابل لازال للتحليل والتنظير والاكتشاف والكشف في الغرب، في حين ستدير أمّا شابة من بلدنا ظهرها لنا وسيعلو وجهها الانكار ولن تقبل الانصات لما تسمع هنا، فوقتها مرهون دعنا نقل لثلاثة أطفال، من أجل رعايتهم، إطعامهم وحفظ سلامتهم وسط هموم البلد المتلاحقة والظروف المهددة للحياتهم. سيصيبها القرف إن علمت أن بعض الأمهات في الغرب صرن يخترن أكل المشيمة بعد الولادة، أو تمليحها وتجفيفها وسحقها لتحويلها إلى بودرة يلتهمنها مع الطعام في فترة الرضاعة. أمر له علاقة بالتضفير ما بين الأم والطفل مادامت خلايا المشيمة هي ذاتها خلايا الطفل المولود، ومن جانب آخر فهو علاج صيني متبع قديم، إذ يعتقد أنه يقي الأم من حالة الاكتئاب ما بعد الولادة على الأخص، طالما انه ينتج هرمونات معينة ذات علاقة.
تتساءل مرسال في تقديمها محاضرة حول "الأمومة والفوتوغرافيا"1 ضمن بحث كامل في تاريخ هذه العلاقة حمل العنوان "الأمومة والفوتوغرافيا" عن نظرة الطفل إلى أمه لاحقا؛ كيف يرى امه، ماهي طبيعة العلاقة التي تربطه بها ومالذي سيتخلّف من تلك العلاقة في روحه وبدنه؟ تاركين التساؤل فيما لو كان هناك من مجال في خضم الظرف الذي تعيشه هذه المدن بيروت القاهرة بغداد ودمشق لطرح تساؤلات من هذا النوع، هل سيهم الأم صاحبة الأطفال الثلاث على سبيل المثال شيء من هذه التساؤلات حقا، هل تطرح على نفسها هذا السؤال؟ إنها ستمضي ولاشك بمهمتها على أحسن وجه، قدر طاقتها ووعيها ليس إلا. ومن ناحية أخرى ما الذي ستنصت اليه من قبل مجتمع أبوي ذكوري يحكم عليها من خلال منظومة قيم محددة تلغي هوياتها الأخرى أمام الهوية الوحيدة الملزِمة بعد أن صارت أمّاً بمعنى الأمومة التقليدي الذي تعتمده الكتب الدينية على مختلفها والمناهج الدراسية وأصحاب الإرشاد الأسري والتوعية الصحية.
أليس هناك من حالة لا تُرسَم فيها ملامح الأمومة بشكل نمطي ولا تنتمي كذلك إلى حالات مرضية معينة، من دون التعقيدات أو المعضلات التي تقترن بها؟ هل تختلف الأم الشرقية عن الأم الغربية بخصوص هذه الغريزة؟ ما تناولته مرسال من أمثلة ضمن تقديمها المذكور كان عتبة أولى للسؤال في هذا الاتجاه، واعتمادها للمصورة الأمريكية "أني ليبوفيتز"؛ صورة الأم عبر صورها الفوتوغرافية وهوياتها المتعددة كان القفز بعينه من المتن إلى قلب الهامش! فالمصورة ذائعة الصيت اختارت الأمومة بعمر 52 عاما عندما ولدت ابنتها الاولى.
إيمان مرسال، في أماكن خاصة تحديدا، من خلال حديثها وذبذبة صوتها تختار الملبس المناسب وبمقاسه المريح لها. تحاول مثل أخطبوط المسك بواسطة كل طرف من أطرافه بجانب من الموضوع، سواء كان تاريخيا أم علميا، وراثيا، نفسيا أو اجتماعيا مدعمأ بشهادات ووحقائق علمية وصور، يتخلل ذلك نصوصا سردية أو شعرية للكاتبة، بمثابة الرأس لكل ما هو تحت الدرس، انعكاس ابداعي للعديد من الحالات، استشهاداتها، الدلالات والزوايا المطروحة من منظوريات معينة.
هناك طريقة ولادة تدعى ب"لوتس" تعتمد ترك المشيمة مع حبل السرة حتى يجفّان بعد الولادة من دون قطع وذلك يستغرق 3-7 أيام، والتفسير هو أن للمشيمة دور هام في حفظ التوازن والانسجام في العلاقة بين الجنين وأمه ولا يجب لهذا السبب، أن يُبتر هذا العضو من جسم الكائنين بهذه الفجاءة. يكفي الوليد صدمته التي يواجهها في انزلاقه من رحم أمه وانفصاله عنها. وهنا يحضر اقتباس للكاتب الفرنسي من أصل روماني إميل سيوران يحمل بعدا فلسفيا تشاؤميا كعادته بقوله2 "نحن لانركض نحو الموت، نحن نفرّ من كارثة الولادة، نتخبط مثل ناجين يحاولون نسيانها"، نحن إذن أمام محاولات لا تنتهي لتفسير الرابط بين الطفل والأم، والأهم تحولات العلاقة إثرها بين الاثنين على المدى الأبعد!
مصطلح الأمومة معقد في حد ذاته، فكيف لو أصاب العلاقة الطبيعية بين مزدوجين عطل ما! في هذه الحالة يشبه في سياقه المثل الذي اختممت فيه مرسال محاضرتها حول الساعة العاطلة التي كانت وهي طفلة على يقين من كونها لن تظهر في الصورة بسبب عطلها، الاقتراب منه هو مشروع حياة، سيكون مثل سعي حثيث من أجل ترجمة نص أصلي نفتقد نسخته الأصلية الأولى.
هوامش:
1- بدعوة واستضافة من قبل منتدى "أشغال داخلية لأشكال ألوان" في بيروت 2015.
2- اقتباس من كتابه المترجم الى إلعربية تحت عنوان "مثالب الولادة" دار الجمل، 2015، ترجمة آدم فتحي.